فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

وقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لعلكم تشكرون نعمَه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة، وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء، بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نَوْبَتي فَرَوَّحتها بعَشِيّ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس، فأدركت من قوله: «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وُضُوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقْبلا عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة». قال: قلت: ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود منها. فنظرت فإذا عمر، رضي الله عنه، فقال: إني قد رأيتك جئت آنفا قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ- أو: فيسبغ- الوضوء، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء». لفظ مسلم.
وقال مالك: عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توَضّأ العبد المسلم- أو: المؤمن- فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء- أو: مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء- أو: مع آخر قطْر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء- أو: مع آخر قطْر الماء- حتى يخرج نقيا من الذنوب».
رواه مسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك، به.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مُرَّة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه- أو: ذراعيه- إلا خرجت خطاياه منهما، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه».
هذا لفظه. وقد رواه الإمام أحمد، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، عن سالم، عن مرة بن كعب، أو كعب بن مرة السلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإذا توضأ العبد فغسل يديه، خرجت خطاياه من بين يديه، وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، وإذا غسل ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه». قال شعبة: ولم يذكر مسح الرأس. وهذا إسناد صحيح.
وروى ابن جرير من طريق شَمِر بن عطية، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه».
وروى مسلم في صحيحه، من حديث يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن أبي مالك الأشعري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الطَّهور شَطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة بُرهان، والصبر ضياء، والقرآن حُجَّة لك أو عليك، كل الناس يَغْدُو، فبائع نفسه فَمعتِقهَا، أو مُوبِقُهَا».
وفي صحيح مسلم، من رواية سِمَاك بن حَرْب، عن مُصْعب بن سعد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صدقة من غُلُول، ولا صلاة بغير طهور».
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن قتادة، سمعت أبا المَلِيح الهُذَلي يحدث عن أبيه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت، فسمعته يقول: «إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور، ولا صدقة من غُلُول».
وكذا رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث شعبة. اهـ.

.قال الثعالبي:

و{لَعَلَّكُمْ}: ترَجٍّ في حقِّ البَشَرِ، وفي الحديثِ الصحيحِ عن أبِي مالك الأشعريِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، والحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأنِ، أَوْ تَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَالصَّلاَةُ نورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»، رواه مُسْلِم، والترمذيُّ، وفي روايةٍ له: «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ»، وزاد في رواية أخرى: «وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حِجَابٌ؛ حتى تَخْلُصَ إلَيْهِ» انتهى. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وليتم نعمته عليكم} في الذي يتمُّ به النعمة أربعة أقوال:
أحدها: بغفران الذنوب.
قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن دارة، عن حمران قال: مررت على عثمان بفخّارةٍ من ماءٍ، فدعا بِها فتوضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة أو مرّتين أو ثلاثًا ما حدثتكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما توضأ عبد فأحسن الوضوء، ثم قام إِلى الصلاة، إِلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» قال محمد بن كعب: وكنت إِذا سمعت الحديث التمسته في القرآن، فالتمست هذا فوجدته في قوله تعالى: {إِنا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر ويتمَّ نعمته عليك} [الفتح: 1، 2] فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في المائدة: {إِذا قمتم إِلى الصلاة} إِلى قوله: {وليتم نعمته عليكم} فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم.
والثاني: بالهداية إِلى الإِيمان، وإِكمال الدين، وهذا قول ابن زيد.
والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان.
والرابع: ببيان الشرائِع، ذكره بعض المفسّرين. اهـ.

.قال البيضاوي:

والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة. اهـ.

.قال في روح البيان:

اعلم أن المقصود من طهارة الثوب وهو القشر الخارج البعيد ومن طهارة البدن وهو القشر القريب طهارة القلب وهو لب الباطن وطهارة القلب من نجاسات الأخلاق أهم الطهارات ولكن لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضًا تأثير في إشراق نورها على القلب فإذا أسبغت الوضوء واستشعرت نظافة ظاهرك صادفت في قلبك انشراحًا وصفاء كنت لا تصادفه قبله وذلك لسر العلاقة التي بين عالم الملك وعالم الملكوت فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما ينحدر من معارف القلب آثار إلى الجوارح فكذلك قد يرتفع من أحوال الجوارح التي هي من عالم الشهادة آثار إلى القلب ولذلك أمر الله بالصلاة مع أنها حركات الجوارح التي من عالم الشهادة ولذلك جعلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا ومن الدنيا فقال: «حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» ولا يستبعد أن يفيض من الطهارة الظاهرة أثر على الباطن وإن أردت لذلك دليلًا من الشرع فتفكر في قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «خمس بخمس إذا أكل الربا كان الخسف والزلزلة وإذا جار الحكام قحط المطر وإذا ظهر الزنى كثر الموت وإذا منعت الزكاة هلكت الماشية وإذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة لهم» وإن كنت تطلب لهذا مثلًا من المحسوسات أيضًا فانظر إلى ما يفيض الله من النور بواسطة المرآة المحاذية للشمس على بعض الأجسام المحاذية للمرآة وبالجملة إن الله تعالى جعل الوضوء والتيمم من أسباب الطهارة فلابد من الاجتهاد في تحصيل الطهارة مطلقًا وإن كان التوفيق من الله تعالى. اهـ.

.قال الصابوني:

.الحكم الثالث: هل يجب الوضوء على غير المحدث؟

ظاهر قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} يوجب الوضوء على كل قائم وإن لم يكن محدثًا، وقد أجمع العلماء على أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، فيكون قيد الحدث مضمرًا في الآية ويصبح المعنى «إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون» وإنما أوّلوا الآية بهذا التأويل للإجماع على أن الوجوب لا يجب إلا على المحدث، ولأن في الآية ما يدل عليه، فإن التيمم يدل عن الوضوء وقائم مقامه، وقد قيد وجوب التيمم في الآية بوجود الحديث، فالأصل يجب أن يكون مقيدًا به، ليتأتى أن يكون البدل قائمًا مقام الأصل، ولأن الأمر بالوضوء نظير الأمر بالاغتسال وهو مقيد بالحدث الأكبر في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فاطهروا} فيكون نظيره وهو الأمر بالوضوء مقيدًا بالحدث الأصغر.
ومما يدل على ذلك «أن النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله صنعت شيئًا لم تكن تصنعه؟ فقال له عليه الصلاة والسلام عمدًا فعلته يا عمر» يعني أنه عليه السلام أراد بيان الجواز لأمته بهذا العمل.
وأما ما ورد من أنه عليه السلام وخلفاءه كانوا يتوضؤون لكل صلاة، فإن ذلك لم يكن بطريق الوجوب، وإنما كان بطريق الاستحباب، والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائمًا يحب الأفضل، فليس في فعله ما يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة.

.الحكم الرابع: ما هو حكم مسح الرأس وما مقداره؟

اتفق الفقهاء على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء لقوله تعالى: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} ولكنهم اختلفوا في مقدار المسح على أقوال:
أ- قال المالكية والحنابلة: يجب مسح جميع الرأس أخذًا بالاحتياط.
ب- وقال الحنفية: يفترض مسح ربع الرأس أخذًا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم بمسحه على الناصية.
ح- وقال الشافعية: يكفي أن يمسح أقل شيء يطلق عليه اسم المسح ولو شعرات أخذًا باليقين.
دليل المالكية والحنابلة: استدل المالكية والحنابلة على وجوب مسح جميع الرأس بأن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة للتأكيد، واعتبارها هنا زائدة أولى، والمعنى: امسحوا رؤوسكم، وقالوا: إن آية الوضوء تشبه آية التيمم، وقد أمر الله تعالى بمسح جميع الوجه في التيمم {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} ولمّا كان المسح في التيمم عامًا لجميع الوجه، فكذلك هنا يجب مسح جميع الرأس ولا يجزئ مسح البعض، وقد تأكد ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت أنه كان إذا توضأ مسح رأسه كله.
دليل الحنفية والشافعية: واستدل الحنفية والشافعية بأن الباء «للتبعيض» وليست زائدة، والمعنى: امسحوا بعض رؤوسكم، إلاّ أن الحنفية قدروه بربع الرأس لما روى عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته.
وأما الشافعية فقالوا: الباء للتبعيض، وأقل ما يطلق عليه اسم المسح داخل بيقين، وما عداه لا يقين فيه فلا يكون فرضًا، وإنما يحمل على الندب.
قال الشافعي: «احتمل قوله تعالى: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} بعض الرأس، ومسح جميعه، فدلت السنة على أن مسح بعضه يجزئ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته، وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عز وجل: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له مسحُ الوجه في التيمم بدل من غسله، فلابد أن يأتي بالمسح على جميع موْضِع الغسل منه، ومسحُ الرأس أصلٌ فهذا فرق ما بينهما».
قال القرطبي: «أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعلّ النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لاسيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظِنّة الإعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة، فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجبًا لما مسح على العمامة».
أقول: الباء في اللغة العربية موضوعة للتبعيض، وكونها زائدة خلاف الأصل، ومتى أمكن استعمالها على حقيقة ما وضعت له وجب استعمالها على ذلك النحو، فالفرض يجزئ بمسح البعض، والسنّة مسح الكل، فما ذهب إليه الشافعية والحنفية أظهر، وما ذهب إليه المالكية والحنابلة أحوط والله أعلم.